فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول} الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فآنتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشقّ ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا من النجوى؛ لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية.
الثانية: قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم نسخه مع كونه خيرًا وأطهر.
وهذا رَدٌّ على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبد الرحمن وقد ضعفه العلماء.
والأمر في قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} نص متواتر في الرد على المعتزلة.
والله أعلم.
الثالثة: روى الترمذي عن عليّ بن علقمة الأنماري عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} سألته قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما ترى دينارًا؟ قلت لا يطيقونه. قال: فنصف دينار قلت: لا يطيقونه. قال: فكم. قلت: شعيرة. قال: إنك لزهيد. قال فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية. قال: فَبِي خفّف الله عن هذه الأمة».
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب.
قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الأولى نسخ العبادة قبل فعلها.
والثانية النظر في المقدّرات بالقياس؛ خلافًا لأبي حنيفة.
قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة.
وقد روي عن مجاهد: أن أوّل من تصدّق في ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبيّ صلى الله عليه وسلم. روي أنه تصدّق بخاتم.
وذكر القشيري وغيره عن عليّ بن أبي طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} كان لي دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدّقت بدرهم حتى نفد؛ فنسخت بالآية الأخرى {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}.
وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها.
وقال ابن عمر: لقد كانت لعليّ رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حُمُر النَّعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
{ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي من إمساكها {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم من المعاصي {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} يعني الفقراء {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} استفهام معناه التقرير.
قال ابن عباس: {أَأَشْفَقْتُمْ} أي أبخلتم بالصدقة؛ وقيل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه.
أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم {أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}.
قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليالٍ ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة.
وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ.
وكذا قال قتادة.
والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} أي نسخ الله ذلك الحكم.
وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدّق به {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} فنسخت فرضية الزكاة هذه الصدقة.
وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليّ رضي الله عنه ضعيف؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وهذا يدل على أن أحدًا لم يتصدّق بشيء.
والله أعلم.
{وَأَطِيعُواْ الله} في فرائضه {وَرَسُولَهُ} في سننه {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول} أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر مّا من الأمور {فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ أَوْ صَدَقَةٍ} أي فتصدقوا قبلها، وفي الكلام استعارة تمثيلية، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبية النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل، وفي {بَيْنَ} ترشيح على ما قيل، ومعناه قبل؛ وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ونفع للفقراء وتمييز بين الخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلى الله عليه وسلم من غير حاجة مهمة، فقد روى عن ابن عباس.
وقتادة أن قومًا من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت، واختلف في أن الأمر للندب أو للوجوب لكنه نسخ بقوله تعالى: {أَءشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] الخ، وهو وإن كان متصلًا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولًا، وقيل: نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الأول، ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل، أخرج الترمذي وحسنه.
وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «لما نزلت {خَبِيرٌ يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم} إلخ قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: نصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: فإنك لزهيد. فلما نزلت {أَءشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] الآية قال صلى الله عليه وسلم: خفف الله عن هذه الأمة» ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه.
أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن في كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى {خَبِيرٌ يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول} إلخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهمًا ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت {أَءشْفَقْتُمْ} الآية، قيل: وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم، واختلف في مدة بقائه، فعن مقاتل أنها عشرة ليال، وقال قتادة: ساعة من نهار، وقيل: إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح آنفًا.
وقرئ {صدقات} بالجمع لجمع المخاطبين {ذلك} أي تقديم الصدقات {خَيْرٌ لَّكُمْ} لما فيه من الثواب {وَأَطْهَرُ} وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها، وفيه إشارة إلى أن في ذلك إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المناجاة.
وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة أظهر إشعارًا بالوجوب.
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}
أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول {أشفقتم} محذوف، و{إن} على إضمار حرف التعليل، ويجوز أن يكون المفعول {أَن تُقَدّمُواْ} فلا حذف أي أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتب الفقر عليه، وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر، وتقديم {صدقات} وهذا أولى مما قيل: إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} ما أمرتم به وشق عليكم ذلك {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة، وفيه على ما قيل: إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤى منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام توبتهم {وَإِذْ} على بابها أعني أنها ظرف لما مضى، وقيل: إنها بمعنى {إِذْ} الظرفية للمستقبل كما في قوله تعالى: {إِذِ الاغلال في أعناقهم} [غافر: 71].
وقيل: بمعنى إن الشرطية كأنه قيل: فإن لم تفعلوا {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة} والمعنى على الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، واعتبرت المثابرة لأن المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة، وعدل فصلوا إلى {فَإِذَا قَضَيْتُمُ} ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كمالها لا على أصل فعلها فقط، ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه؛ ولم يقل وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل فتدبر {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي في سائر الأوامر، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى: {أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في المجالس فافسحوا} [المجادلة: 11] الآيات وغير ذلك.
{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ظاهرًا وباطنًا.
وعن أبي عمرو {يعملون} بالتحتية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}
استئناف ابتدائي عاد به إلى ذكر بعض أحوال النجوى وهو من أحوالها المحمودة.
والمناسبة هي قوله تعالى: {وتناجوا بالبر والتقوى} [المجادلة: 9].
فهذه الصدقة شرعها الله تعالى وجعل سببها مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرت عقب آي النجوى لاسْتيفاء أنواع النجوى من محمود ومذموم.
وقد اختلف المتقدمون في سبب نزول هذه الآية، وحكمة مشروعية صدقة المناجاة.
فنقلت عن ابن عباس وقتادة وجابر بن زياد وزيد بن أسلم ومقاتل أقوال في سبب نزولها متخالفة، ولا أحسبهم يريدون منها إلا حكاية أحوال للنجوى كانت شائعة، فلما نزل حكم صدقة النجوى أقلّ الناس من النجوى.
وكانت عبارات الأقدمين تجري على التسامح فيطلقون على أمثلة الأحكام وجزئيات الكليات اسمَ أسباب النزول، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير، وأمسك مجاهد فلم يذكر لهذه الآية سببًا واقتصر على قوله: نهوا عن مناجاة الرسول حتى يتصدّقُوا.
والذي يظهر لي: أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به، وجعل سببها ووقتَها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع الله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعًا يوميًا، وكان الفقراء أيامئذٍ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصُفّة ومعظم المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يومًا فيومًا لأن الزكاة تدفع في رؤوس السنين وفي مُعيَّن الفصول، فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة.
وعن ابن عباس: أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة، وظاهر قوله في الآية التي بعدها {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [المجادلة: 13] أن الزكاة حينئذٍ شَرْع مفرد معلوم، ولعل ما نقل عن ابن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة.
وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمنًا قليلًا، قيل: إنه عشرة أيام.